ظل الحرم النبوي الشريف بعد عمارة الوليد بن عبد الملك دون تغيير يذكر، حتى تولي الخلافة المهدي العباسي، فأمر بعمارته من جديد عام 160 هـ وتعتبر عمارة المهدي للحرم النبوي الشريف ذات أهمية خاصة لأنها وضعت للمسجد حدوده التي ظل محتفظاً بها رغم ما جري عليه بعد ذلك من تجديد وتعمير علي مر العصور.
ويبدوا أن العزم كان قد انعقد منذ بداية الخلافة العباسية علي إجراء عمارة في الحرم النبوي الشريف، غير أن ظروف الدولة الجديدة في عهد السفاح، الخليفة العباسي الأول لم تكن تسمح بتوجيه جهد كبير نحو البناء والتعمير، إذ كان مشغولا بطبيعة الحال بإقرار الأمور والقضاء علي الدولة الأموية، كما أن مدة خلافته كانت من القصر بحيث لم تتح له فرصة القيام بالأعمال المعمارية.
أما الخليفة العباسي المنصور، فقد ساد في عهده نوع من الاستقرار النسبي، فعقد العزم علي تجديد المسجد النبوي الشريف ولكنه توفي قبل أن يتمكن من ذلك وما إن استقرت الأمور للخليفة العباسي (المهدي) عام 158هـ حتى شرع في عمارة الحرم النبوي الشريف، فأصدر أوامره بذلك عام 160 هـ واستغرقت العمارة سنتين، وقد عهد الخليفة المهدي العباسي إلي عبد الله بن عاصم بن عمر بن عبد العزيز، وعبد الملك بن شبيب، ولم يتعرض المشرفون علي عمارة المسجد لرواق القبلة ولا الرواقين الجانبيين إذ أبقوها علي حالها كما كانت في عهد الوليد بن عبد الملك كما أبقوا علي منبر النبي (صلى الله عليه وسلم) ومحراب سيدنا عثمان بن عفان (رضي الله عنه) والأبواب التي فتحها سيدنا عمر بن الخطاب، واقتصرت العمارة علي توسعة المسجد نحو الشمال مما أدى إلي هدم الرواق الشمالي وإضافة رقعه من الأرض في شمال المسجد طولها ثلاثين مترا تقريبا، وقد أدت هذه العمارة إلي إعادة بناء الرواق الشمالي من جديد، وتكملة أعمدة الرواقين الجانبيين، وإعادة بناء المئذنتين الشماليتين، وفتح بابين جديدين في الجدار الشمالي وأصبح المسجد النبوي الشريف بعد عمارة المهدي يتألف من صحن أوسط تحف به أربعة أروقة، ويحتوي رواق القبلة علي خمسة صفوف من الأعمدة موازية لجدار القبلة..
ولقد تمت في عمارة المهدي زخرفة الرواق الشمالي الجديد بالفيسفساء، أما صحن المسجد فظل يحف به أربعة أروقة وبذلك لم تغير عمارة المهدي من طراز المسجد النبوي الشريف، وقد ظل المسجد النبوي منذ عهد المهدي محتفظاً بحدوده ومعالمه دون تغيير إلي أن اجتاحه حريق مروع عام 654 هـ (1256م)
وقد حدث هذا الحريق ليلة الجمعة أول رمضان حيث امتدت النار إلي أنحاء المسجد كله، ولم ينج من النار سوي القبة التي كان قد أقامها الناصر لدين الله بصحن المسجد وكان بها المصحف العثماني. وما إن بلغ الحريق الخليفة العباسي المستعصم بالله حتى أمر بتعمير المسجد وشرع في ذلك عام 656هـ غير أن القدر لم يمهله لإتمام عمارته حيث قتله هولاكو في 14 صفر 656 هـ وبموته انتهت الدولة العباسية نفسها علي يد المغول الذين اجتاحوا شرق العالم الإسلامي..
*************************************************